الشيخ الرئيس ابن سينا.. المعلم الثالثابنسيناعاش ابن سينا في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس منالهجرة، وقد نشأ في أوزبكستان، حيث ولد في "خرميش" إحدى قرى "بخارى" في شهر صفر (370 هـ= أغسطس 908م).
وحرص أبو عبد الله بن سينا على تنشئته تنشئة علميةودينية منذ صغره، فحفظ القرآن ودرس شيئا من علوم عصره، حتى إذا بلغ العشرين من عمرهتوفي والده، فرحل أبو علي الحسين بن سينا إلى جرجان، وأقام بها مدة، وألف كتابه "القانون في الطب"، ولكنه ما لبث أن رحل إلى "همذان" فحقق شهرة كبيرة، وصار وزيراللأمير "شمس الدين البويهي"، إلا أنه لم يطل به المقام بها؛ إذ رحل إلى "أصفهان" وحظي برعاية أميرها "علاء الدولة"، وظل بها حتى خرج من الأمير علاء الدولة في إحدىحملاته إلى همذان؛ حيث وافته المنية بها في رمضان 428 هـ= يونيو 1037م.
فيمحراب العلم والإيمانوكان ابن سينا عالما وفيلسوفا وطبيبا وشاعرا، ولُقِّببالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطوالإسلام، وكان سابقا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عنالمشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموجبه من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.
وكان لذلك كلهأبلغ الأثر في إضفاء المسحة العقلية على آرائه ونظرياته، وقد انعكس ذلك أيضا علىأفكاره وآثاره ومؤلفاته، فلم يكن ابن سينا يتقيد بكل ما وصل إليه ممن سبقوه مننظريات، وإنما كان ينظر إليها ناقدا ومحللا، ويعرضها على مرآة عقله وتفكيره، فماوافق تفكيره وقبله عقله أخذه وزاد عليه ما توصل إليه واكتسبه بأبحاثه وخبراتهومشاهداته، وكان يقول: إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومينعن الخطأ والزلل.
ولذلك فقد حارب التنجيم وبعض الأفكار السائدة في عصره فيبعض نواحي الكيمياء، وخالف معاصريه ومن تقدموا عليه، الذين قالوا بإمكان تحويل بعضالفلزات الخسيسة إلى الذهب والفضة، فنفى إمكان حدوث ذلك التحويل في جوهر الفلزات،وإنما هو تغيير ظاهري في شكل الفلز وصورته، وفسّر ذلك بأن لكل عنصر منها تركيبهالخاص الذي لا يمكن تغييره بطرقالتحويل المعروفة.
وقد أثارت شهرة ابن سيناومكانته العلمية حسد بعض معاصريه وغيرتهم عليه، ووجدوا في نزعته العقلية وآرائهالجديدة في الطب والعلوم والفلسفة مدخلا للطعن عليه واتهامه بالإلحاد والزندقة،ولكنه كان يرد عليهم بقوله: "إيماني بالله لا يتزعزع؛ فلو كنت كافرا فليس ثمة مسلمحقيقي واحد على ظهر الأرض".
الزهرة عبر دائرة قرص الشمسكان لابنسينا ريادات في العديد من العلوم والفنون؛ ففي مجال علم الفلك استطاع ابن سينا أنيرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة في يوم (10 جمادى الآخرة 423 هـ = 24 من مايو 1032م)، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي "جير مياروكس" في القرنالسابع عشر.
صفحة من مخطوطة في الفلكواشتغل ابن سينا بالرصد،وتعمق في علم الهيئة، ووضع في خلل الرصد آلات لم يُسبق إليها، وله في ذلك عدد منالمؤلفات القيمة، مثل:
- كتاب الأرصاد الكلية.
- رسالة الآلةالرصدية.
- كتاب الأجرام السماوية.
- كتاب في كيفية الرصد ومطابقتهللعلم الطبيعي.
- مقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط.
- كتاب إبطال أحكام النجوم.
ابن سينا العالم الجيولوجيوله أيضا قيمةفي علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) خاصة في المعادن وتكوين الحجارة والجبال، فيرىأنها تكونت من طين لزج خصب على طول الزمان، وتحجر في مدد لا تضبط، فيشبه أن هذهالمعمورة كانت في سالف الأيام مغمورة في البحار، وكثيرا ما يوجد في الأحجار إذاكسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها.
كما ذكر الزلازل وفسرهابأنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض؛ بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرضله أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، وهو إما جسمبخاري دخاني قوى الاندفاع أو جسم مائي سيّال أو جسم هوائي أو جسمناري.
ويتحدث عن السحب وكيفية تكونها؛ فيذكر أنها تولد من الأبخرة الرطبةإذا تصعّدت الحرارة فوافقت الطبقة الباردة من الهواء، فجوهر السحاب بخاري متكاثفطاف الهواء، فالبخار مادة السحب والمطر والثلج والطل والجليد والصقيع والبرد وعليهتتراءى الهالة وقوس قزح.
ابن سينا عالم نباتوكان لابن سينا اهتمامخاص بعلم النبات، وله دراسات علمية جادة في مجال النباتات الطبية، وقد أجرىالمقارنات العلمية الرصينة بين جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، ووصفها وصفا علميادقيقا ودرس أجناسها، وتعرض للتربة وأنواعها والعناصر المؤثرة في نمو النبات، كماتحدث عن ظاهرة المساهمة في الأشجار والنخيل، وذلك بأن تحمل الشجرة حملا ثقيلا فيسنة وحملا خفيفا في سنة أخرى أو تحمل سنة ولا تحمل أخرى.
وأشار إلى اختلافالطعام والرائحة في النبات، وقد سبق كارل متز الذي قال بأهمية التشخيص بوساطةالعصارة، وذلك في سنة 1353 هـ = 1934م.